البقرة:221
يمنع القرآنُ المسلمين والمسلمات من الزواج من «الْمُشْرِكَاتِ والْمُشِرِكِينَ» (البقرة: 2/ 221)؛ وهذا يعني حظر الزواج بين المسلمين والمسيحيين، لأن القرآنّ يوجه تهمة الشرك للمسيحيين (المائدة: 5/ 72 ـ 73؛ التوبة: 9/ 31). ومع ذلك، يسمح القرآن للرجال المسلمين ـ فحسب ـ بالزواج من النّساء المسيحيات واليهوديات (المائدة: 4/ 5).
فهل المسيحيون مشركون أم لا؟ وهل يجوز مصاهرتهم؟
بما أنَّ (المائدة: 4/ 5) لم تنسخ (البقرة: 2/ 221) فإن التناقض يبقى قائماً بين الرأييْن في القرآن.
البقرة:223
تنظر هذه الآية إلى المرأة على أنها «مَزْرَعةٌ يُحْرَثُ فيها» الرجل، على حد وصف السُّدِّيِّ في تفسير الطبري، وتجيز للرجل ممارسة الجنس <أَنَّى> شاء. وأيضاً، تعطي الآية للمسلم حق التصرف المطلق بجسد المرأة؛ ومع ذلك فإن السؤال المتصل بهذه الآية لا يتعلق إنْ كان القرآن قد أعطى الرجال حق التحكم بالنساء جسداً وروحاً، فهذه مسألة لا خلاف فيها بين العلماء المسلمين، بل السؤال هو: ماذا تعني عبارة <فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ>.
هل المقصود بـ <أَنَّى>: كيف أو متى أو أين. توزعت أقوال المفسرين:
أ ـ <أَنَّى شِئْتُمْ>: يحقّ للمسلم ممارسة الجنس بأية وضعية رغبها.
ويحكى أن يهوداً وجهوا نقداً للمسلمين، لممارستهم وضعيات جماع مختلفة، وإن يهودياً قال: «ما أنتم إلاّ أمثالُ البهائمِ، ولكنَّا إنما نأتيها على هيئةٍ واحدةٍ»، فجاءت الآية لترد عليه (الطبري).
ب ـ <أَنَّى شِئْتُمْ>: متى خطر على بال الرجل، باستثناء فترة الحيض.
ج ـ <أَنَّى شِئْتُمْ>: أين أو حيث شاء الرجل؛ وقالوا بأن الآية تجيز الاتيان في الدُّبُر (= اللواطية)، كما صرح بذلك ابنُ عُمرُ معلقاً على الآية: «نزَلت في إتيانِ النساءِ في أدبارِهنَّ» (الطبري وابن كثير). وثمة مأثور في أسباب النزول يدعم هذا الرأي، يقول:
«أنّ رجلاً أَتى امرأتَه في دُبُرِها فوجَد في نفسِه من ذلك» فنزلت الآية (الطبري). وفي رواية أخرى: «أنّ رجلاً أصابَ امرأتَه في دُبُرِها... فأنكر الناسُ ذلك... فأنزل الله» الآية (الطبري وابن كثير).
وقد تبنى مقولة السماح بالإتيان في الدُّبُرِ فقهاءٌ من أهل المدينة (ابن كثير). وقيل إنّ مالكاً، قال بذلك في كتاب له يسمى «كتاب السرّ»، ونقلت الأخبار أن عدداً من أصحاب محمد كانوا يناصرون هذا الرأي (القرطبي). وقال ابن العربي في كتابه «أحكام القرآن» إن مجموعة من العلماء أيدت نكاح الدُّبُر، وأضاف ابن العربي القول إنّ عالماً يُدعى ابنُ شعبان جمع الآراء المؤيدة للإتيان في الدُّبُرِ في كتاب عنوانه: «جماع النسوان وأحكام القرآن»، وأنه «أسْنَد جوازَه إلى زُمْرةٍ كريمةٍ من الصحابة والتابعين وإلى مالك في روايات كثيرة».
على أي حال، لا يمكن أن ننكر أن جدلاً نشأ بين أصحاب الرأييْن، وقيل إنّ ابن الجوزي ألف كتاباً عارض فيه القول بجواز الاتيان في الدُّبُر، بعنوان: «تحريم المَحَلّ المكروه» (القرطبي). لكن حقيقةً تبقى قائمةً: إن الآية ـ وحتى في تفسيرها «الملطف» ـ تلغي كينونة المرأة لأنها تعطي الرجل الحق في اتخاذ الوضعية الجنسية التي يشتهيها؛ وتسمح له بإشباع جوعه الجنسي بأي وقتٍ، بغض النظر عن حالة المرأة النفسية والجسدية.
وأخيراً، نسأل: لو كانت الإجازة «الإلهية» في الآية تقصد تنوع الوضعيات الجنسية لا اللواطية، فلماذا جاءت الصيغة القرآنية ملتبسة بحيث تمكن ذووي الميول الجنسية المنحرفة من إشباع رغباتهم؟
البقرة:229-231
صادق القرآن على الطّلاق المتكرر، وأعطى الرجل فرصة تطليق زوجته مرتين، ولكنه قال إنه بعد المرة الثالثة لا يحق للمطلقة الرجوع لزوجها السابق <حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ> (البقرة: 230).
ويُروى أنَّ مسلماً من الأنصار يُدعى ثابت بن يسار طلّق امرأته، فلما كانت عدتها تقارب على الانتهاء، كان يعيدها ثم يطلقها مجدداً، يفعل ذلك لأذيتها فحسب، وللحد من ظلمه جاءت الآية: <وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ> (البقرة: 231). (أسباب النزول للسيوطي).
هل كان هذا الرجل يستند إلى عرف جاهلي، أم كان يرتكز إلى مبدإٍ إسلامي أُلغي لاحقاً؟ لا نستطيع الفصل لعدم وجود معلومات عن أساس هذه الممارسة، ولكن هذه القاعدة كانت تسمح للرجل، إنْ طلق امرأته، أن يسترجعها قبل انقضاء عدتها، ومهما بلغ عدد مرات التطليق.
مكنت هذه القاعدة بعض الرجال من التلاعب بمصير زوجاتهم، بين استدعاء وطرد؛ ولهذا يقول المفسرون إن الغاية من تشريع <حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ> ردع الرجل عن العبث، وتحرير المرأة من الارتهان لمزاجه.
ثم إن العلماء المسلمين درسوا كيفية تطبيق تشريع <حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ>؛ فقدموا رأييْن:
الرأي الأول، يقول إنَّ المقصود بمفردة «النكاح» في الآية هو عقد الزواج، وإنه بمجرد أن يتم العقد مع الثاني ـ وإنْ لم يتطارحا الغرام ـ صار بوسعها العودة للأول.
الرأي الثاني، وهو رأي أغلبية العلماء، يعلن أن «النكاح» في النص يُقصد به الاتصال الجنسي؛ ويستندون إلى قصة امرأة رِفاعة القُرَظيِّ، واسمها تَمِيمةُ بنتُ وهبٍ، وهي امرأة طلقها زوجها، فتزوجت آخر لكي تتمكن من الرجوع إلى زوجها السابق، لكن محمداً قال لها: «أتُرِيدين أنْ تَرْجعي إلى رِفاعة؟ لا، حتى تَذُوقي عُسَيْلَتَه، ويذوق عُسَيْلَتَك» (الطبري والدر المنثور للسيوطي).
فُسّر الشرط المحمدي [ذَوْق العُسَيْلة]، على معنييْن:
أ. على أنه ممارسة الجنس، ويستخدم العلماء عبارة «تغيب الحشفة». وأصحاب محمدٍ مجمعون على أن المرأة لا تحِلُّ لزوجها السّابقِ حتى يُجامِعَها الآخرُ.
ب. التلامس بين الأعضاء الجنسية، ويصطلحون عليه بعبارة: «التقاء الختانين».
يتضح من قصة زوجة رِفاعة إنّ محمداً كان يقصد الاتصال الجنسي الكامل، وقد أكده بوضوح، فقال: «لا، إلاّ نكاحَ رغبةٍ، لا نكاحَ دُلْسةٍ، ولا استهزاءً بكتابِ اللهِ، ثم يَذُوقُ عُسَيْلتَها». وحذّر من التحليل، فقال: «لعَن اللهُ المُحَلِّلَ والمُحلَّلَ له»، وقد وصف محمدٌ الشخص الذي يلعب دور المُحَلِّل بأنه: «التَّيْس المُسْتَعار» (الدر المنثور). وبذلك فإن عملية الرجوع إلى الزوج الأول تقتضي المرور بالمراحل التالية:
1. العدة؛
2. العقد مع الثاني؛
3. ممارسة الجنس (ذَوْق العُسَيْلة)؛
4. طلاقها من الثاني؛
5. العدة (تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي).
بدون أدنى شك، كان يجب إزالة العرف الذي يسمح بالتسلط على المرأة، ولكن هل التشريع الذي سنّه محمدٌ، والقائم على: <حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ> و«ذَوْق العُسَيْلة»، يشير إلى أنه تشريع سماوي؟ ألا تبرهن طريقة المعالجة على أننا أمام قانون يعكس ثقافة المشرّع وفهمه الخاص للعلاقة بين الرجل والمرأة؟
هامش فقهي:
لا تنطبق قاعدة الطلاق ثلاث مرات على كافة المسلمين، إذ يقول علماؤهم إن المسترق يحق له الزواج من امرأتين فحسب، ويُطلِّق تطليقتيْن. وتعتَّد المسترقة حيضتَيْن، فإنْ لم تَكُنْ تَحيِض فشهرين؛ خلافاً للمرأة الحرّة، التي تعتَّد ثلاثَ حِيَضٍ (الدر المنثور).
البقرة:247-251
تقصّ الآيات خبر نبيّ قال لبَنِي إِسْرَائِيلَ: «إنّ اللهَ استجابةً لطلبكم عيّن لكم طَالُوت مَلكاً». وقد عارض الزعماء هذا الخيار لأنّ المرشح لا ينحدر من سبط الملوك، ولا من بيت النبوات، إضافة إلى أنه لا يملك من المال ما يعطيه حق السيادة. إلاَّ إنَّ النبي أجابهم أن الأمر مشيئة الله، وإنّ طَالُوت سيأتي بالتَّابُوتِ علامةً على ملكه.
وبعد أنْ صار طَالُوت ملكاً، خرج بمقاتليه لمحاربة الأعداء، فقال لجنوده إنهم سيعبرون نهراً، وإن الله سيمتحنهم بعدم الشرب من النهر، وكل من يشرب منه يفشل في الامتحان، واستثنى من ذلك <إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ> (البقرة: 249)؛ ولكن أغلب الجنود سقطوا في الاختبار. كان العابرون مع طَالُوت قليلي العدد، وأغلب الروايات الواردة في التفاسير ترجح إن عددهم كان ثلاثمئة وبِضْعَة عَشَر رجلاً.
هؤلاء الجنود القلائل لمّا رأوا العدو بقيادة جَالُوت، أصابهم الهلع، لكن نخبة من خالصي الإيمان، قالوا للخائفين: «إنَّ التاريخ يعلمنا إنَّ جماعةً قليلةً مؤمنة صابرة، هزمت بقدرة الله جماعة باغية كبيرة العدد». ومن ثم ابتهلوا إلى الله لكي ينصرهم على عدوهم. وفعلاً حقق المؤمنون نصراً مظفراً، وقتلَ دَاوُدُ جَالُوتَ.
تروي هذه القصة القرآنية خبر شَاوُل [طَالُوت]، ولكن تدخل عليها حدثاً من سيرة دَاوُد وفصلاً من حياة جِدْعُون. إذْ تخبرنا الرواية الكتابية إن صَمُوئِيل النبي مسح شَاوُلَ ملكاً على بَنِي إِسْرَائِيلَ (1 صَمُوئِيلَ: 15/ 1). وفي عهد شَاوُل جرت المعركة ضد الْفِلِسْطِينِيِّينَ حيث بارز دَاوُدُ جُلْيَاتَ [جَالُوت] وقتله (1 صَمُوئِيلَ: 17/ 33 ـ 58). ولكن:
1. عند الإشارة إلى موضوع التَّابُوت، يأخذ القرآنُ ما يتصل بدَاوُد ويلصقه بشَاوُلَ. إذ يقول القرآن عن شَاوُلَ <إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ>، في حين أنّ دَاوُدَ وبعد أنْ أستولى على أورشليم، أتى بتَّابُوت العهد إلى هذه المدينة، وسط أجواء احتفالية (2 صَمُوئِيلَ: 6/ 6 ـ 19).
2. أما قصة النهر فترتبط بشخصيّة أخرى، هي شخصيّة جِدْعُون، الذي قال حينما حارب الْمِدْيَانِيِّينَ: «انْزِلُوا لِلِقَاءِ الْمِدْيَانِيِّينَ وَخُذُوا مِنْهُمُ الْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَالأُرْدُنِّ» (الْقُضَاة: 7/ 24). وكان مع جِدْعُون الثلاثمئة مقاتل: «وجَاءَ جِدْعُونُ إِلَى الأُرْدُنِّ وَعَبَرَ هُوَ وَالثَّلاَثُ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ مَعَهُ مُعْيِينَ وَمُطَارِدِينَ» (الْقُضَاة: 8/ 4). ولكن أضاف القرآن للقصة تفصيل امتحان شرب الماء، وهذا إما من تأثير رواية شفوية كانت منتشرة في الجزيرة العربية، أو أن محمداً قام بإضافة هذا التفصيل.
إذاً، يخلط القرآن بين جملة أحداث، فيعزي الإتيان بالتّابوت إلى شَاوُل، بينما كان دَاوُد هو مَن أتى به. ويعتبر شَاوُل [طَالُوت] وجِدْعُون شخصاً واحداً، وبسبب هذا الفهم الخاطئ، خيّل لناظم القرآن أن الحرب مع الْفِلِسْطِينِيِّينَ هي نفسها الحرب مع الْمِدْيَانِيِّينَ، رغم أن بين الحادثتين زمن طويل، فقتل جُلْيَات كان في سنة 1062 قبل المسيح، ومعارك جِدْعُون جرت في سنة 1245 قبل المسيح. أي إنَّ الفارق الزمني بين الحدثين أكثر من (180) سنة.